ملخص المقال

خصائص الحضارة الإسلامية مقال للدكتور مصطفى السباعي يوضح فيه خصائص الحضارة الإسلامية التي أثرت في تاريخ التقدم الإنساني، وما قدمته من أياد خالدة

 

يُعرِّف الحضارة بعضُ الكاتبين في تاريخها بأنَّها: “نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثَّقافي”، وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقيَّة، ومتابعة العلوم والفنون، ولاطِّرَاد الحضارة وتقدُّمِها عواملُ مُتعددة: جغرافية، واقتصادية، ونفسية؛ كالدِّين واللغة والتربية، ولانْهيارها عواملُ هي عكس تلك العوامل التي تؤدِّي إلى قيامها وتطوُّرِها، ومن أهمها: الانحلال الخُلُقي والفِكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظُّلم والفقر، وانتشار التشاؤم واللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكْفَاء، والزُّعماء المخلصين.

وقصة الحضارة تبدأ منذ خُلِقَ الإنسان، وهي حلقة مُتصلة تسلمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولا تَختص بأرض ولا عِرْق، وإنَّما تنشأ من العوامل السَّابقة التي ذكرناها، ولا يكاد تخلو أمَّة من تسجيل بعض الصَّفحات في تاريخ الحضارة، غير أنَّ ما تَمتاز به حضارة عن حضارة إنَّما هو قوَّة الأسس الذي تقوم عليه، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يُصيب الإنسانية من قيامها، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها، كانت أخلد في التاريخ، وأبقى على مرور الزَّمن، وأجدر بالتكريم.

والحضارة الإسلامية حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات، وتبعتها حضارات، وقد كان لقيام الحضارة الإسلامية عوامل، ولانهيارها أسباب، ليست هي ما تعنيه هذه السلسلة من أحاديثنا، وإنَّما نريد أن نتحدث عن دورها الخطير في تاريخ التقدُّم الإنسانيِّ، ومدى ما قدَّمته في ميدان العقيدة والعلم، والخُلُق والحُكْم، والفن والأدب من أيادٍ خالدة على الإنسانية في مُختلف شُعُوبها وأقطارها.

إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لـ الحضارة الإسلامية أنها تميزت بالخصائص التالية:
– أنَّها قامت على أساس الوحدانية المُطلقة في العقيدة؛ فهي أول حضارة تنادي بعبادة الله الواحد الذي لا شريك له في حُكمه وملكه، وهو وحده الذي يُعبد، وهو وحدَه الذي يُقصد؛ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، وهو الذي يُعِزُّ ويُذِل، ويعطي ويَمنع، وما من شيء في السَّموات والأرض إلا وهو تحت قُدرته وفي مُتناول قبضته.

هذا السُّمُوُّ في فَهم الوحدانية كان له أثرٌ كبيرٌ في رفع مُستوى الإنسان، وتحرير الجماهير من طُغْيَان الملوك والأشراف والأقْوياء ورجال الدِّين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلى الله وحدَه، وهو خالقُ الخلق وربُّ العالمين، كما كان لهذه العقيدة أثرٌ كبيرٌ في الحضارة الإسلامية، تكاد تتميَّز به عن كل الحضارات السَّابقة واللاحِقَة، وهو خُلُوُّها من كلِّ مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحُكْم والفن والشِّعر والأدَب، وهذا هو سِرُّ إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة “الإلياذة” وروائع الأدَب اليوناني الوَثَني، وهذا سِرُّ تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير، مع تَبريزها في فنون النقْش والحفر وزخرفة البناء.

إنَّ الإسلام الذي أعلن الحربَ العوانَ على الوثنية ومظاهرها – لم يسمحْ لحضارته أنْ تقوم فيها مظاهرُ الوثنية وبقاياها المُستمرة من أقدم عُصور التاريخ؛ كتماثيل العُظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين، وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة؛ لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلى المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.

وهذه الوَحْدة في العقيدة تُطبِّع كلَّ الأُسس والنُّظم التي جاءت بها الحضارة الإسلامية؛ فهنالك الوَحْدة في الرِّسالة، والوَحْدة في التشريع، والوَحْدة في الأهداف العامة، والوَحْدة في الكِيَان الإنساني العام، والوَحْدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير، حتَّى إنَّ الباحثين في الفُنُون الإسلاميَّة قد لاحظوا وحدة الأُسلوب والذَّوق في أنواعها المختلفة، فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانيَّة – تبدو رغم تنوُّع أشكالها وزخرفتها ذات أسلوب واحد وطابَع واحد.

– وثاني خصائص الحضارة الإسلامية: أنَّها إنسانيَّة النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة؛ فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني على الرغم من تَنوُّع أعراقه ومنابته ومواطنِه، في قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13]؛ إنَّ القرآن حين أعلَن هذه الوَحْدة الإنسانية العالميَّة على صعيد الحق والخير والكرامة – جعل حضارته عقدًا تنتظم فيــه جميعُ العبقـريات للشعـوب والأمم، التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلاميَّة؛ ولذلك كانت كلُّ حضارة تستطيع أنْ تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمَّة واحدة؛ إلا الحضارة الإسلامية، فإنَّها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صَرحها من جميع الأمم والشعوب، فـ أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمـد، والخليل وسيبويه، والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد، وأمثالهم مِمَّن اختلفت أصولهم، وتباينت أوطانهم – ليسوا إلا عباقرةً قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروَع نتاج الفِكر الإنساني السليم.

– وثالث خصائص الحضارة الإسلامية: أنَّها جعلت للمبادئ الأخلاقيَّة المحلَّ الأول في كلِّ نظمها، ومُختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخلَّ عن هذه المبادئ قطُّ، ولم تجعلها وسيلة لِمنفَعة دولة أو جماعة أو أفرادٍ، في الحُكم، وفي العلم، وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة؛ لقد رُوعِيت المبادئ الأخلاقية تشريعًا وتطبيقًا، وبلغت في ذلك شأوًا ساميًا بعيدًا لم تبلغْه حضارة في القديم والحديث، ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارًا تستحق الإعجاب، وتجعلها وحدَها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادةً خالصةً لا يشوبها شقاء.

– ورابع هذه الخصائص: أنَّها تُؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز على العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبَت العقل والقلب معًا، وأثارت العاطفة والفِكر في وقت واحد، وهي مَيْزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ، وسِرُّ العجب في هذه الخِصِّيصة من خصائص الحضارة الإسلامية: أنَّها استطاعت أن تنشئ نظامًا للدولة قائمًا على مبادئ الحقِّ والعدالة، مرتكزًا على الدِّين والعقيدة، دون أن يُقيم الدين عائقًا من دون رقيِّ الدولة واطراد الحضارة؛ بل كان الدين من أكبر عوامل الرُّقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة، وقرطبة وغرناطة – انطلقت أشعة العلم إلى أنْحاء الدنيا قاطبة.

إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدِّين عن الدولة، مع نجاتها من كلِّ مآسي المزج بينهما كما عرفته أوربا في القرون الوسطى، لقد كان رئيسُ الدَّولة خليفةً وأميرًا للمؤمنين؛ لكن الحكم عنده للحقِّ، والتشريع للمُختصِّين فيه، ولكلِّ فئة من العلماء اختصاصُهم، والجميـع يتسـاوَوْن أمام القانون، والتفاضل بالتَّقوى والخدمة العامة للناس؛ “وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا[1]، “الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ[2].

هذا هو الدِّين الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية، ليس فيه امتيازٌ لرئيس، ولا لرجل دين، ولا لشريف ولا لغني؛ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ[الكهف:110].

– وآخر ما نذكر من خصائص الحضارة الإسلامية: هذا التسامح الديني العجيب، الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت على الدِّين؛ إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله لا يبدو عجيبًا إذا نظر إلى الأديان كلِّها على حدٍّ سواء، وإذا عامـل أتباعهـا بالقسطاس المُستقيم؛ ولكنَّ صاحب الدين الذي يؤمن بأنَّ دينه حق، وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي على الحكم، ويجلس على منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانُه بدينه، واعتزازُه بعقيدته على أنْ يجورَ في الحكم، أو أن ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتِّباع دينه، إن رجلاً مثل هذا لعجيب أن يكون في التاريخ، فكيف إذا وُجد في التاريخ حضارةٌ قامت على الدِّين، وشُيِّدت قواعدُها على مبادئه، ثُمَّ هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحًا وعدالة ورحمة وإنسانية؟!

هذا ما صنعته حضارتُنا، وسنَجِد له عشرات الأمثلة فيما نذكُره في أحاديثنا المُقبلة، وحسبنا أنْ نعرف أن حضارتَنا تنفَرد في التاريخ بأن الذي أقامها دينٌ واحدٌ؛ ولكنَّها كانت للأديان جميعًا.

المصدر: الألوكة.